تركيا تعيد التموضع في آسيا- الاقتصاد، التاريخ، والدفاع المشترك

المؤلف: سمير العركي09.18.2025
تركيا تعيد التموضع في آسيا- الاقتصاد، التاريخ، والدفاع المشترك

في عام 2019، كشفت تركيا النقاب عن مبادرة "آسيا من جديد"، وذلك ضمن إطار أوسع يجسد رؤيتها الطموحة لسياستها الخارجية في المئوية الجديدة. وأكدت وزارة الخارجية التركية أن هذه المبادرة الطموحة تهدف بشكل أساسي إلى "الاستفادة القصوى من الفرص الكامنة الواعدة للتعاون المثمر مع الدول الآسيوية، وذلك بما يتماشى بدقة مع الظروف والاحتياجات المتطورة باستمرار". وأضافت الوزارة أيضًا أن المبادرة تركز بشكل جوهري على "تحسين وتعزيز علاقات تركيا مع هذه الدول الصديقة والشركاء الاستراتيجيين من خلال اعتماد نهج إقليمي ودون إقليمي شامل ومخصص لكل دولة على حدة، مع التركيز الدائم على المصالح والأهداف المشتركة التي تجمعنا".

وعلى هذا الأساس المتين، شهدت السنوات القليلة الماضية سلسلة من الإجراءات العملية الملموسة التي اتخذتها أنقرة، بهدف ترجمة هذه المبادرة إلى واقع ملموس في شكل تعاون بناء وفعال ومثمر مع مختلف الدول الآسيوية في شتى المجالات الحيوية.

فقد طورت تركيا العمل الدؤوب داخل "المجلس التركي"، الذي شهد تحولًا تاريخيًا في نهاية عام 2021 ليصبح "منظمة الدول التركية". تضم هذه المنظمة في عضويتها دولًا من آسيا الوسطى، وهي على وجه التحديد: كازاخستان، وأوزبكستان، وقرغيزستان، بالإضافة إلى أذربيجان. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الدول ترتبط بعلاقات وثيقة مع تركيا، تستند إلى روابط ثقافية ولغوية وعرقية ودينية عميقة الجذور.

علاوة على ذلك، عملت تركيا بدأب على تعزيز وتوطيد علاقاتها مع رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان". وأكد وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، خلال مشاركته الفعالة في اجتماع وزراء خارجية دول الرابطة في يوليو/تموز الماضي، أن تركيا "تتطلع قدمًا إلى أن تصبح شريك حوار رسمي لرابطة آسيان، وذلك بهدف إرساء دعائم حوار وتعاون أكثر شمولًا وتنظيمًا بين الجانبين".

وفي هذا الإطار الاستراتيجي الشامل، الذي وضعته أنقرة بعناية، يمكننا فهم الأهداف والآثار المتوقعة من الجولة الآسيوية الهامة التي قام بها الرئيس أردوغان مؤخرًا، والتي شملت كلًا من ماليزيا، وإندونيسيا، وباكستان.

استدعاء العثمانية

قبل الخوض في تفاصيل أهداف الزيارة، والتي كان الجانب الاقتصادي عنوانها الأبرز والأكثر أهمية، يجدر بنا التنويه إلى ما لفت الأنظار بشدة، وهو الاستدعاء المكثف للتاريخ المشترك العريق، وذلك بهدف التأكيد على عمق ومتانة العلاقات التي تربط هذه الدول الصديقة بتركيا، حتى قبل تأسيس الجمهورية التركية في عام 1923.

ففي مؤتمر صحفي مشترك عقده مع نظيره الإندونيسي، برابوو سوبيانتو، صرح الرئيس أردوغان قائلًا: "نحتفل هذا العام بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين لتأسيس علاقاتنا الدبلوماسية الرسمية".

ثم أردف مؤكدًا: "ومع ذلك، فإن روابطنا التاريخية والإنسانية العميقة مع إندونيسيا تعود إلى ما يزيد على 400 عام".

وتشير هذه القرون الأربعة التي ذكرها الرئيس أردوغان، إلى الحملة العسكرية التاريخية التي أرسلتها الدولة العثمانية إلى إقليم آتشيه الإندونيسي في القرن السادس عشر، وذلك بهدف تقديم الدعم اللازم لسلطان الإقليم آنذاك في مواجهة الإمبراطورية البرتغالية الطامعة.

وخلال مأدبة العشاء الفاخرة التي أقامها الرئيس الإندونيسي، تكريمًا لنظيره التركي، كان لافتًا للغاية قيام الفرقة الموسيقية بعزف نشيد الجيش العثماني الشهير المعروف باسم "المهتر"، حيث شارك الرئيس أردوغان أعضاء الفرقة بترديد بعض مقاطع هذا النشيد الحماسي.

وفي المحطة الباكستانية، أشاد رئيس الوزراء الباكستاني، شهباز شريف، بالعلاقات الوطيدة التي تجمع بين البلدين الشقيقين، مشيرًا إلى أن "هذه العلاقة الثنائية المتميزة لم تنشأ فقط بعد استقلال باكستان، بل على العكس من ذلك، كانت هناك علاقة صداقة وأخوّة راسخة وعميقة بين البلدين تعود إلى قرون مضت". وذكّر رئيس الوزراء الباكستاني بأن "مسلمي شبه القارة الهندية بذلوا قصارى جهدهم لدعم أولئك الذين كانوا يناضلون من أجل استقلالهم في تركيا خلال حرب الاستقلال".

ومن المعروف تاريخيًا أن مسلمي الهند، والتي تشمل حاليًا دولًا مثل باكستان وبنغلاديش والهند، أرسلوا مساعدات كبيرة للدولة العثمانية في حرب الاستقلال، وقبلها في حروب البلقان. هذا الاستدعاء التاريخي دفع الرئيس أردوغان إلى القول للصحفيين المرافقين له على متن الطائرة الرئاسية أثناء عودته من الجولة: "إن كل الإطراءات والثناء الذي تلقيناه كان بفضل إرث العثمانيين العظيم. ولولا إرثهم المجيد، لما وجهت إلينا هذه الإشادة والتقدير".

التعاون الاقتصادي

وَفقًا للمقاربة التي أعلنها الرئيس أردوغان من قبل، والتي شكلت الأساس الراسخ لعلاقات تركيا مع مختلف الدول، والمعروفة باسم "اربح- اربح"، كان الجانب الاقتصادي هو العنوان الأبرز والأكثر أهمية في هذه الزيارة الهامة.

فتعداد سكان الدول الثلاث مجتمعة يتجاوز 555 مليون نسمة، وتبلغ قيمة صادرات كل من ماليزيا وإندونيسيا ما يقرب من 600 مليار دولار أمريكي، مع معدل نمو اقتصادي تجاوز نسبة 5% في كلا البلدين.

ومن هنا، حرص الرئيس أردوغان خلال زيارته على تعظيم وتعميق التعاون الاقتصادي مع هاتين الدولتين، بالإضافة إلى باكستان، على الرغم من التحديات الاقتصادية التي تواجهها، حيث لا يزال اقتصادها في طور التعافي.

وقد تجسد هذا التوجه نحو تعزيز التعاون الاقتصادي في توقيع 49 اتفاقية مختلفة مع الدول الثلاث، إلا أن أهم هذه الاتفاقيات كان من نصيب الصناعات الدفاعية، حيث اصطحب الرئيس أردوغان معه كبار المسؤولين في الشركات التركية الرائدة العاملة في هذا المجال، مثل شركة بايكار، الشركة المصنعة للطائرات المسيرة الشهيرة بيرقدار، وشركة توساش، المسؤولة عن إنتاج المقاتلة "KAAN"، والتي تصنف ضمن مقاتلات الجيل الخامس، كما تختص الشركة بإنتاج وتطوير عدة أنواع أخرى من الطائرات، بما في ذلك الطائرات المروحية والتدريب، بالإضافة إلى المقاتلة إف-16.

إن تعزيز التعاون في مجال الصناعات الدفاعية بين هذه الدول الإسلامية، سيمثل على المستوى الاستراتيجي تطورًا هامًا نحو التخفف من الاعتماد المفرط على الدول الغربية في مجال التسلح، وما يستتبعه ذلك من تقليل التأثير على القرار السيادي لتلك الدول، وهي الأزمة التي عانت منها تركيا كثيرًا في فترات زمنية سابقة.

كما سيشهد ملف التبادل التجاري بين تركيا وهذه الدول تطورًا ملحوظًا، حيث تشير الاتفاقيات الثنائية الموقعة إلى رفع قيمة التبادل التجاري إلى نحو 10 مليارات دولار أمريكي مع كل من ماليزيا وإندونيسيا.

الحضور الفلسطيني- السوري

حرص الرئيس أردوغان خلال مؤتمراته الصحفية مع قادة الدول الثلاث، وكذلك خلال لقاءاته الصحفية المختلفة، على حشد التأييد والدعم من تلك العواصم الإسلامية للقضيتين الفلسطينية والسورية، وذلك من خلال تأكيده على المحاور التالية:

  • أولًا: رفض قاطع لخطة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، للاستيلاء على قطاع غزة، واعتبارها تهديدًا صريحًا وواضحًا للسلام العالمي، مع التشديد على أن "إندونيسيا وباكستان وماليزيا تتشاطر وجهات النظر نفسها مع تركيا فيما يخصّ أهمية تحقيق السلام العالمي".
  • ثانيًا: تحميل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، المسؤولية الكاملة عما يحدث في قطاع غزة والضفة الغربية، ووصفه صراحة بأنه "رجل عصابات"، مع التأكيد على احترام تركيا لقرار المحكمة الجنائية الدولية بشأن اعتقال نتنياهو.
  • ثالثًا: وصف إسرائيل بالدولة الاستبدادية، ونفي صفة الديمقراطية عنها، وذلك بسبب تهديدها المستمر للدول الأخرى بالقوة التي تمتلكها، والدعم الأميركي اللامحدود الذي تتلقاه.
  • رابعًا: دعوة الدول الأعضاء في رابطة جنوب شرق آسيا "آسيان" إلى التعاون الوثيق من أجل توفير المساعدات الإنسانية اللازمة والضرورية لقطاع غزة المحاصر.
  • خامسًا: بالنسبة للملف السوري، صرح الرئيس أردوغان بأنه "لم يعد هناك شيء اسمه بنية تحتية أو فوقية في سوريا، فقد تم تدمير كل شيء"، مؤكدًا أن بلاده ستتعاون بشكل وثيق مع ماليزيا لاتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة هذا الدمار الشامل.

إعادة التموضع آسيويًا

لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل زيارة الرئيس أردوغان للدول الثلاث، عن مجمل التحركات الجيوستراتيجية التي انتهجتها تركيا في قارة آسيا، وفقًا للمبادرة التي تم الإعلان عنها في عام 2019، كما أشرنا إليها سابقًا.

فقد فرضت الحرب الباردة على تركيا تقوقعًا داخل منطقة الأناضول، وابتعادًا قسريًا عن العمق الآسيوي، وذلك بسبب وجود الاتحاد السوفياتي آنذاك، بكل ثقله العسكري والاستراتيجي المهيمن.

إلا أن تركيا احتاجت إلى ما يزيد على عقد من الزمان بعد تفكك الإمبراطورية السوفياتية، لكي تعيد اكتشاف طريقها داخل آسيا، انطلاقًا من الميزات الجغرافية المميزة التي تتمتع بها، من خلال موقعها الاستراتيجي في قلب قارة أوراسيا، وارتباطها الوثيق بالعديد من الدول الآسيوية على المستويين الجيوثقافي والجيوعرقي، كما هو الحال في منطقة آسيا الوسطى، ومنطقة جنوب شرق آسيا.

فموقع تركيا المتميز في قلب أوراسيا، منحها ميزة استثنائية تتمثل في الوجود على طريق التجارة الحيوي الذي يربط بين قارتي آسيا وأوروبا. وقد أكد وزير الخارجية التركي في يناير/كانون الثاني الماضي، أن "الطريق الاقتصادي الأكثر موثوقية والأسرع بين القارتين الآسيوية والأوروبية هو خط آسيا الوسطى – بحر قزوين – جنوب القوقاز وتركيا".

كما أن إعادة التموضع الآسيوي، يشير بوضوح إلى رغبة أنقرة الأكيدة في بناء استراتيجية متوازنة ومتينة، في عصر التحولات العميقة التي يشهدها النظام العالمي. وتشير التقديرات إلى الصعود الصيني المتوقع في عالم ما بعد القطبية الواحدة، وهو الأمر الذي يدفع تركيا إلى امتلاك القدرة الكافية على التأثير الفعال في هذا العالم الجديد، وعدم تكرار أخطاء الماضي، كما حدث في فترة الحرب الباردة، حينما تحولت إلى مجرد حارس لبوابة حلف الناتو الجنوبية، دون أن تمتلك القدرة الحقيقية على التأثير في مجريات الأحداث.

أيضًا، لا يمكننا بأي حال من الأحوال فصل هذا التموضع الآسيوي، عن مجال التنافس الإقليمي المحتدم بين تركيا وإيران، حيث نجحت أنقرة في إقامة تحالفات قوية وموثوقة مع معظم دول الطوق المحيطة بإيران، مثل باكستان وأفغانستان وتركمانستان، كما عززت نفوذها وتأثيرها في منطقة القوقاز، من خلال تحالفها الاستراتيجي الراسخ مع أذربيجان، والذي أدى إلى إلحاق الهزيمة بأرمينيا في حرب تحرير ناغورني قره باغ في عام 2020.

وهكذا، فإنه من الواضح تمامًا أن التقديرات التركية تشير بوضوح إلى الصعود الآسيوي المرتقب، في مواجهة المركزية الأوروبية التقليدية التي سادت منذ القرن التاسع عشر، وهذا ما دفع تركيا إلى تعزيز وجودها القوي داخل القارة الآسيوية، من خلال آليات متعددة ومتنوعة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة